أن الأزمات السودانية التي بدأت تتوالد منذ سقوط رأس نظام الإنقاذ حتى اليوم ، احد أسبابها الرئيس؛ لم يكن هناك مشروعا سياسيا متفق عليه من قبل كل القوى ، وعلى ضوء هذا المشروع تتم محاسبة السلطة التنفيذية أول بأول من قبل الحاضنة والمراقبين ولكنه لم يحصل . أن عدم صياغة مشروع من قبل أي حزب سياسي أن كان صغيرا أو كبيرا حديثا أو تاريخيا لكي يقدم للحوار السياسي والمجتمعي ، يؤكد حالة الفقر الفكري التي تعيشها المؤسسات الحزبية ، ويوضح أنها تعاني من إشكالية في العناصر التي تشتغل بالفكر باعتبار أن هؤلاء المفكرين يستطيعون أن يقدموا مبادرات ورؤى تعزز من قضية الوعي في المجتمع، و أيضا يفتحوا نفاجات متواصلة للحوار السياسي، الذي يعتبر أهم أداة تؤدي إلى تعزيز الثقة بين القوى الفاعلة في المجتمع ، وفي ذات الوقت يكون لهم القدرة على تقييم مسيرة العمل السياسي ، وفحص الأدوات المستخدمة إذا كانت تعمل بصورة فاعلة أو معطوبة ، أو تحتاج لتغيير العمل السياسي ، وفحص الأدوات المستخدمة إذا كانت تعمل بصورة فاعلة أو معطوبة ، أو تحتاج لتغيير بأدوات أكثر فاعلية. لآن مهمة المفكر أن يدفع يوميا بقضايا جديدة يحرك بها ميكنزمات العمل السياسي ، ويعمل على تجديد الأسلئة المطروح في المسرح السياسي ، لزيد من فاعلية العقل في التفكير الصحيح ، هذا يساعد في التعاطي الإيجابي مع القضايا والبحث عن حلول لها .أن الأزمة التي حدثت بين المكونين المدني والعسكري ، ليست أزمة عابرة ، أو جاءت نتيجة لأسباب موضوعية في خلافات حول إدارة سلطة الفترة الانتقالية . الأزمة كانت لسببين . الأول أختلاف الثقافة وطريقة التفكير بين الجانبين ، خاصة أن البلاد خارجة من نظام استمر ثلاثة عقود خلف فيها تراكم كبيرا للثقافة الشمولية ، وكل جنرالات المؤسسات النظامية كانوا هم حماة هذه الثقافة الشمولية ، وكانوا مستبطنين هذه الثقافة ، وأصبحت تتحكم في طريقة تفكيرهم ، وبالتالي ليس بين يوم وليلة سوف يصبحوا ديمقراطيين ، المسألة تحتاج لوقت طويل تستطيع أن تنتج المؤسسات الديمقراطية (الثقافة الديمقراطية) المطلوبة التي تنداح على الثقافة الشمولية ، وكان على القوى المدنية أن تضع هذه في الاعتبار . السبب الثاني الميل لفكرة السلطة دون فكرة التحول الديمقراطي . ففكرة السلطة والسعي لها والرغبة في الوصول إليها تولد الصراع ، ليس فقط بين المدنيين والعسكر ، وأيضا بين المدنيين أنفسهم وهذا الذي حصل وعندما يتحول الصراع داخل السلطة بين المدنيين والعسكر لابد أن يقع الانقلاب لآن العسكر هذه أداتهم ولا يملكون غيرها . فالعسكر لا يستطيعون التعامل في الصراع السياسي بأدوات السياسيين بل يتعاملون بالادوات التي يعرفونها أكثر .
في ظل هذا الوضع المـأزوم ، والذي زاد تأزما بانقلاب 25 أكتوبر ، ورفع شعارات صفرية ، لكن دائما العقل المفكر يفتح منافذ للحل في ظل هذه العتمة ، فجاءت مبادرات عديدة من مؤسسات أكاديمية وأجتماعية ، ورجال الأعمال ومبادرة الأمم المتحدة وغيرها ، وكلها محاولات تهدف لمحاصرة الأزمة ، وإيجاد حل عبر توافق وطني يؤدي إلي العمل من أجل انجاز مهام الفترة الانتقالية . لكن المطلوب كيف تستطيع القوى المدنية توحد خطابها السياسي وتخلق مركزية واحدة تستطيع أن تدير بها الأزمة . من جانب و من جانب أخر هناك ثلاثة قضايا بدأت تتخلق لتخلق واقعا الميثاق الذي قدمته لجان مقاومة ود مدني وبعض لجان مقاومة في ولاية الخرطوم ، يعتبر نقلة نوعية وخطوة في اتجاه تنشيط العقل السياسي ، للخروج من دائرة الجدل البيزنطي الذي يعتمد على الشعارات كأرضيات للحركة السياسية ، والشعار نفسه بهدف ملء فراغ لم يستطيع الفكر إطالته قال الناطق الرسمي بأسم قوى الحرية و التغيير (المجلس المركزي) جعفر حسن عثمان لقناة الجزيرة مباشر أن قوى الحرية مع تشكيل الوزارة من كفاءات مستقلة لها خبرات تساعدها على أنجاز مهامها ، وأن قوى الحرية لا تريد أن تدخل حتى في اختيارهم . هذه الحديث يقرب المسافات . كان المتوقع من القوى السياسية التى كانت في سلطة الفترة الانتقالية قبل انقلاب 25 أكتوبر ، أن تقدم تقييما موضعيا للشعب السوداني تبين فيه أسباب تعثر الفترة الانتقالية ، وتبين رؤيتها للحل . وهو بمثابة نقد تعلم فيه الناس السلوك الديمقراطي المفترض أن يكون ، باعتبار أن الأحزاب مناط عملية إنتاج الثقافة الديمقراطية ، وترسيخها في المجتمع ، وتكون بداية لمفارقة ثقافة التبرير التي اعتمدت عليها القوى السياسية طوال مسيرتها التاريخية ، فالنقد ليس عيبا بل هو تصحيح لمسار، كما أن النقدقبول القوى السياسية بمبدأ الحوار ، باعتباره الآلية الناجعة للخروج من أزمات الثقة ، وسوف تخلق واقعا جديدا . قد تبين ذلك من خلال قبول الجميع لتلبية دعوة فوكلر رئيس البعثة الأممية ، ومهما حاولت بعض الأحزاب أن تبرر ذهابها لفوكلر ، لكن تلبية الدعوة نفسها شيء إيجابي ، باعتبار أن الدولة المدنية الديمقراطية لا تبنى بالأمنيات ، والشعارات ، بل تحتاج لعمل دؤوب وصراع فكري وثقافي متواصل ، لغيير كثير من الأفكار الخاطئة والمغلوطة ، وتقديم تنازل من قبل الجميع لذلك أصبحت الفئة المناط بها أن تسهم مساهمة كبيرة بفكرها وتصوراتها للخروج من الأزمة ، وطرح المبادرات الوطنية ، هي نفسها وقعت أسيرة لعملية الاستقطاب ، وباتت جزء من المشكلة ، هذا الواقع لابد أن يحدث فيه تغييرا جوهريا ، أن يعود العقل لكي يؤدي مهامه في عملية الحل والبناء . والخروج من دائرة الاستقطاب إلي تقديم مبادرات وطنية تهدف إلي حل أزماته . والسؤال هل بالفعل أن النخب السياسية والمثقيفن قادرين على التفكير خارج الصندوق؟ وهل أيضا يملكون الطاقات الإبداعية التي تجعلهم في حالة مساهمة إيجابية؟ وأيضا قادرين مغادرة منصات الصراع الأيديولوجي؟ نسأل الله حسن البصير.